الأمير الأسير:
ظل الأمير عبد القادر في سجون فرنسا يعاني من الإهانة والتضييق حتى عام 1852م ثم استدعاه نابليون الثالث بعد توليه الحكم، وأكرم نزله، وأقام له المآدب الفاخرة ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأمير كافة الشؤون السياسية والعسكرية والعلمية، مما أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، ورحل إلى الشرق براتب من الحكومة الفرنسية. توقف في إسطنبول حيث السلطان عبد المجيد، والتقى فيها بسفراء الدول الأجنبية، ثم استقر به المقام في دمشق منذ عام 1856 م وفيها أخذ مكانة بين الوجهاء والعلماء، وقام بالتدريس في المسجد الأموي كما قام بالتدريس قبل ذلك في المدرسة الأشرفية، وفي المدرسة الحقيقية.
وفي عام 1276هـ/1860 م تتحرك شرارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في منطقة الشام، ويكون للأمير دور فعال في حماية أكثر من 15 ألف من المسيحيين، إذ استضافهم في منازله. لجأ إليه فردينان دو ليسبس لإقناع العثمانيين بمشروع قناة السويس.
وفاته
وافاه الأجل بدمشق في منتصف ليلة 19 رجب 1300 هـ / 26 مايو 1883 عن عمر يناهز 76 عاما، وقد دفن بجوار الشيخ ابن عربي بالصالحية بدمشق لوصية تركها. وبعد استقلال الجزائر نقل جثمانه إلى الجزائر عام 1965 ودفن في المقبرة العليا وهي المقبرة التي لا يدفن فيها الا رؤساء البلاد.
الأمير عبد القادر و تأسيس دولته
عندما تولى عبد القادر الإمارة كانت الوضعية الاقتصاديةو الإجتماعية صعبة،لم يكن له المال الكافي لإقامة دعائم الدولة إضافة،كان له معارضون لإمارته، ولكنه لم يفقد الامل إذ كان يدعو باستمرار إلى وحدة الصفوف وترك الخلافات الداخلية و نبذ الاغراض الشخصية...كان يعتبر منصبه تكليفا لا تشريفا.وفي نداء له بمسجد معسكر خطب قائلا:«اذا كت قد رضيت بالامارة,فانما ليكون لي حق السير في الطليعة و السير بكم في المعارك في سبيل ”الله“...الإمارة ليست هدفي فأنا مستعد لطاعة أيّ قائد آخر ترونه أجدر منّي وأقدر على قيادتكم شريطة أن يلتزم خدمة الدّين و تحرير الوطن»
منذ الايام الأولى لتولّيه الإمارة كتب بياناأرسله إلى مختلف القبائل التي لم تبايعه بعد،و من فقرات هذا البيان أقوال منها: «بسم الله الرحمن الرحيم:والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... إلى القبائل...هداكم الله و أرشدكم ووجّهكم إلى سواء السبيل و بعد... إن قبائل كثيرة قد وافقت بالإجماع على تعييني،و انتخبتني لإدارة حكومة بلادنا و قد تعهدت أن تطيعني في السرّاء و الضرّاء وفي الرخاء و الشدّة وأن تقدّم حياتها وحياة أبنائها و أملاكها فداء للقضية المقدّسة ومن اجل ذلك تولينا هذه المسؤولية الصعبة على كره شديد آملين أن يكون ذلك وسيلة لتوحيد المسلمين و منع الفُرقَة بينهم و توفير الامن العام إلى كل اهلي البلاد،ووقْف كل الاعمال الغير الشرعية...ولقبول هذه المسؤولية اشترطنا على اولئك الذين منحونا السلطة المطلقة الطاعة الدائمة في كل أعمالهم إلتزاما بنصوص كتاب الله وتعاليمه ..والأخذ بسنّة نبيّه في المساواة بين القوي و الضعيف،الغنيّ و الفقير لذلك ندعوكم للمشاركة في هذا العهد و القد بيننا وبينكم...وجزاؤكم على الله ان هدفي هو الاصلاح ان ثقتي في الله ومنه ارجو التوفيق»
إن وحدة الأمة جعلهاالامير هي الأساس لنهضة دولته واجتهد في تحقيق هذه الوحدة رغم عراقيل الاستعمار و الصعوبات التي تلقاها من بعض رؤساء القبائل الذين لم يكن وعيهم السياسي في مستوى عظمة المهمة وكانت طريقة الامير في تحقيق الوحدة الوحدة هي الاقناع اولا والتذكير بمتطلبات الايمان و الجهاد,لقد كلفته حملات التوعية جهودًا كبيرة لان أكثر القبائل كانت قد اعتادت حياة الاستقلال ولم تالف الخضوع لسلطة مركزية قوية.بفضل ايمانه القوي انضمت اليه قبائل كثيرة بدون ان يطلق رصاصة واحدة لاخضاعه بل كانت بلاغته وحجته كافيتين ليفهم الناس اهدافه في تحقيق الوحدة ومحاربة العدو،لكن عندملا لا ينفع أسلوب التذكير و الإقناع،يشهر سيفه ضدّ من يخرج عن صفوف المسلمين أو يساعد العدوّ لتفكيك المسلمين،وقد استصدر الأمير فتوى من العلماء تساعده في محاربة اعداء الدّين و الوطن. كان الأمير يرمي إلى هدفين:تكوين جيش منظم وتأسيس دولة موحّدة،وكان مساعدوه في هذه المهمة مخلصون..لقد بذل الأمير وأعوانه جهدًاكبيرا لاستتباب الأمن،فبفضل نظام الشرطة الذي أنشأه قُضِي على قُطّاع الطرق الذين كانوا يهجمون على المسافرين ويتعدّونعلى الحرمات،فأصبح الناس يتنقّلون في أمان وانعدمت السرقات.ولقد قام الأمير بإصلاحات إجتماعية كثيرة،فقد حارب الفساد الخلقي بشدّة،ومنع الخمر والميسر منعًا باتا و منع التدخين ليبعد المجتمع عن التبذير،كما منع استعمال الذهب والفضة للرّجال لأنّه كان يكره حياة البذح والميوعة. قسّم الأمير التراب الوطني إلى 8 وحدات:مليانة،معسكر،تلمسان،الأغواط،المدية،برج بو عريريج،برج حمزة(البويرة)،بسكرة،سطيف)،كما أنشأ مصانع للأسلحة وبنى الحصون و القلاع(تاقدمات،معسكر،سعيدة) لقد شكل الأمير وزارته التي كانت تتكون من5 وزارات وجعل مدينة معسكر مقرّا لها،واختار أفضل الرجال ممّن تميّزهم الكفاءة العلمية والمهارة السياسيةإلى جانب فضائلهم الخلقية،ونظّم ميزانية الدولة وفق مبدأ الزكاة لتغطية نفقات الجهاد،كما إختار رموز العلم الوطني و شعار للدولة(نصر من الله وفتح قريب).